الثلاثاء، 1 أغسطس 2017

الخلاف النحوي بين البصريين والكوفيين: أسبابه، وثماره. (*)

نشأة الخلاف بين المدرستين:

أول ما ظهر الخلاف الحقيقي بين البصريين والكوفيين على يد سيبويه والكسائي، أي منذ القرن الثاني الهجري. على هيئة مناظرة بين الاثنين في مسألة شهيرة عرفت بالمسألة الزّنبوريّة في مجلس يحيى بن خالد البرمكي حين حضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال: تسألني أو أسألك؟ فقال: بل تسألني أنت، فأقبل عليه الكسائي فقال: كيف تقول: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إيَّاهَا؛ فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب؟ فقال له الكسائي: لحنت.... ليس هذا من كلام العرب، والعرب ترفع ذلك كله وتنصبه، فقال له يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد اجتمعت من كل أوب؛ ووفدت عليك من كل صُقْع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المِصْرين، وسمع أهل الكوفة والبصرة منهم؛ فيحضرون ويسألون، فقال له يحيى: قد أنصفت، وأمر بإحضارهم، فدخلوا وفيهم أبو فَقْعَس وأبو زياد وأبو الجراح وأبو ثَرْوَان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه، فوافقوا الكسائي، وقالوا بقوله، فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تسمع، وأقبل الكسائي على يحيى: وقال أصلح الله الوزير! إنه وَفَدَ عليك من بلده مؤملًا، فإن رأيت أن لا ترده خائبًا، فأمل له بعشرة آلاف درهم، فخرج وتوجه نحو فارس، وأقام هناك، ولم يعد إلى البصرة. 
ومهما قلبت الخبر وبحثت فيه من جوانبه، فلن تجد فيه أثرا لعصبية مذهبية، تشير إلى أن الكسائي وسيبويه كانا يصدران في هذه المناظرة عن موقف مذهبي في النحو، أو كانا يختلفان في المنهج أو الأسلوب العلمي الذي يتبعه كل منهما في مناقشته المسألة المطروحة. وكل ما في الأمر أن الكسائي طرح السؤال وأن سيبويه أجاب بما يعرف، ثم لم يلجأ إلى علة أو قياس أو سبب آخر من أسباب التعليل، بل حكم بينهما الأعراب وانتهى اللقاء. 
وبغض النظر عن الصواب والخطأ في المسألة، فقد حظيت بجدل كبير بين أنصار الفريقين، وفتحت الباب واسعا لانتشار الخلاف والمناظرات بين المدرستين، وتطور الخلاف ليصبح تعصبا للمذهب أو المصر أو الأشخاص... فما هي الأسباب الأخرى للخلاف بين المدرستين؟

أسباب الخلاف:

السبب الأول: 

 الاختلاف الطبيعي بين الناس، فكما يختلفون في الشكل واللون واللغة فإنهم يختلفون في طريقة التفكير والقدرة على الاستيعاب والاستنباط والحفظ والاطلاع، وبالتالي يختلفون فيما يصدر عنهم من علوم ومنها النحو.

السبب الثاني:

ما جبل عليه الانسان من حب الغلبة والظهور خاصة أمام 

الناس، فلو تناقش اثنان في مسألة بعيدا عن الناس فقد 

يتفقان وقد يخضع أحدهما لوجهة نظر الآخر، أما لو كانت 

هذه المناقشة أمام الآخرين فلا يتفقان ويحاول أن ينتصر كل 

منهما لوجهة نظره، يقول محمد الطنطاوي: «فحب الغلبة 

جبلِّيّ في الإنسان في مظاهر الحياة المختلفة، فكيف بالعلم 

الذي هو أنبل الغايات وأسمى المقاصد».

السبب الثالث: 

تدخل الحكام العباسيين بين الفريقين، ومناصرة فريق على 

الفريق الآخر، كما حصل بين الكسائي وسيبويه، يقول 

الطنطاوي: «الحق إن السياسة هي التي عاضدت الكوفيين، 

وأوجدت منهم رجالا كوّنوا مذهبا ناضل المذهب البصري...».


  ويتصل بهذا السبب سبب آخر هو الدفاع عما ناله الكوفيون 

من مال وجاه من الخلفاء العباسيين، يقول سعيد الأفغاني: 

«فلما قرّب العباسيون الكسائي وتلاميذه وخصوهم بتربية 

أولادهم وبالإغداق عليهم - إذ كان أهل الكوفة بالجملة أخلص 

لهم وأحسن سابقة معهم على عكس أهل البصرة - اجتهد 

المقربون في التمسك بدنياهم التي نالوها، ووقفوا بالمرصاد 

للبصريين الذين يفوقونهم علما فحالوا بينهم وبين النجاح 

المادي...».

السبب الرابع: 

عصبية بعض أتباع المدرستين للبلد، فقد كان الكوفيون 

يتعصبون للكوفة، وكان بعضهم يؤلف في مفاخر بلده كما 

فعل الهيثم بن عدي الكوفي، فألف كتابه: فخر أهل الكوفة 

على أهل البصرة.


السبب الخامس:

اختلاف المنهج الذي نهجه كل من الفريقين في الأخذ عن 

العرب، فبينما يتشدد البصريون في سماعهم عن العرب، ولا 

يثبتون في كتبهم إلا ما سمعوه عن العرب الفصحاء الذين 

سلمت فصاحتهم من شوائب التحضر وآفاته، بينما كان 

البصريون كذلك كان الكوفيون يتوسعون في رواية أشعار 

وعبارات اللغة عن جميع العرب بدويّهم وحضريّهم. ويبنون 

قواعدهم على الأشعار والأقوال الشاذة، حتى اشتهر عنهم 

أنهم لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول 

جعلوه أصلا وبوّبوا عليه، وأحيانا يبنونها على غير شاهد من 

كلام العرب، ومن ذلك تجويزهم مجيء «لكن» العاطفة للمفرد 

بعد الايجاب حملا على بل، نحو: جاءني زيد لكن عمرو.

السبب السادس:

تفوق بعض تلاميذ سيبويه ونباهتهم، فقد كان الأخفش 

الأوسط أكبر أئمة النحو البصريين بعد سيبويه، فكان عالما 

بلغات العرب، وكان ثاقب الذهن حاد الذكاء، فخالف أستاذه 

سيبويه في كثير من المسائل، وحمل ذلك عنه الكوفيون، 

ومضوا يتسعون فيه فتكونت مدرستهم.  ومن المسائل التي 

تابع الكوفيون الأخفش فيها أن «من» الجارة تزاد في 

الإيجاب مثل قوله تعالى: 

( يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ 


وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)


السبب السابع:

طواعية اللغة ومرونتها، فقد تصرف العربي في وجوه التعبير 

بكثير من الوسائل، واللغة العربية من أكثر اللغات ميلا إلى 

الافتنان وطرق أداء المعنى مع الحرص على التفصيل في 

تحديده. من مظاهر طواعية اللغة العربية ومرونتها ما يأتي:

١. الحذف والاختصار اذا دلّ على المحذوف دليل كما جاء في قوله 

تعالى: 

( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) 
أي: فضرب فانفجرت.
٢. مخاطبة الواحد بلفظ الجمع كما في قوله تعالى:

(يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا 


الْعِدَّةَ)

ثمار هذا الخلاف:

كان لهذا الخلاف الطويل بين النحويين ثمار، شأنه كشأن 

العلوم الأخرى، وبعض هذه الثمار جيدة طيبة أثرت النحو 

وأفادت المتعلمين والمنتفعين، وبعضها سيئة تركت في النحو 

مثالب عديدة، فلنبدأ بالثمار الطيبة لهذا الخلاف:



الثمار الطيبة لهذا الخلاف: 


1. اكتمال
صرح النحو والصرف:

كان اكتمال صرح النحو، وتشعب مسائله وكثرة مؤلفاته نتيجة 

التنافس بين البلدين البصرة والكوفة، وتم ذلك على طورين: 

الأول كان على يد سيبويه والكسائي، فقد أبدع سيبويه 

كتابه، ولم يدع لمن جاء بعده استدراكا عليه، ثم تتابعت بعده 

المؤلفات من كلا المدرستين.

 وكان للمناظرات التي دارت في هذا الطور دور كبير في هذا 

الصدد، فقد كان لها أثرها الفعال، إذ كانت وقودا صالحا 

لإشعال نار الاجتهاد والدأب على استكمال ما بقي من مواد 

هذا الفن.

أما الطور الثاني فكان نتيجة للطور الأول، إذ تخرج فيه رجال 

كانوا فرسان هذا الطور، فكان في البصرة أبو عثمان المازني، 

وأبو عمر الجرمي، وأبو محمد التوزي، وأبو علي الجرمازي، 

وكان في الكوفة يعقوب ابن السكيت، ومحمد بن سعدان، 

وثعلب، والطوال، وغيرهم، ولقد شمر الجميع عن ساعد الجد 

ونزلوا الميدان فأكملوا ما فات السابقين، وشرحوا مجمل 

كلامهم، واختصروا ما ينبغي اختصاره، وبسطوا ما يستحق 

البسط، وهذّبوا التعريفات، وأكملوا وضع المصطلحات، ولم 

يدعوا شيئا من النحو إلا نظروه، ولا أمرا من غيره إلا فصلوه.

  وكان نتيجة ذلك أن انفصل النحو عن الصرف، وأول من 

سلك هذا السبيل المازني، فقد ألف في الصرف وحده، 

وشق الطريق لمن بعده.


2. تخريج نحاة آخرين:

التقى الفريقان في بغداد في أواخر القرن الثالث الهجري، 

ومرت عليهم فترة وهما يتصارعان في مناصرة مذهبيهما على 

مرأى من العلماء. ولما قضى هؤلاء نحبهم وأسدل الستار 

عليهم، وانكسرت حدة النزعة الحزبية في نفوسهم، عرض 

العلماء المذهبين على بساط البحث والنقد وتبين لكل منهم 

مقدار قواعده من الصحة والضعف، فاختلفوا في توجهاتهم 

فمنهم من غلبت عليه النزعة البصرية، ومنهم من غلبت عليه 

النزعة الكوفية، ومنهم من جمع بين الاثنين.

فممن غلبت عليه النزعة البصرية:
 أبو إسحاق إبراهيم الزجاج ت 310هـ.
 أبو بكر محمد ابن السّراج ت 316هـ.
 أبو القاسم عبد الرحمن ابن إسحاق الزجاجي ت 337هـ.
 أبو بكر محمد بن علي مبرمان ت 345هـ.
 أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه ت 347 هـ.
وممن غلبت عليه النزعة الكوفية:
 أبو موسى سليمان بن محمد الحامض ت 305 هـ.
 أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري ت 327 هـ.
وممن جمع بين النزعتين:
 أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة ت 276هـ.
 أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان ت 299 هـ.
 أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش ت 315 هـ.
 أبو بكر أحمد بن حسين بن شقير ت 317 هـ.
 أبو بكر محمد بن أحمد ابن الخياط ت 320 هـ.
3. تيسير النحو:

كان في بعض ما ذهب إليه الكوفيون تيسير على 

الدارسين، وذلك لبعدهم في بعض المواضع عن التقدير، 

ويظهر ذلك في ما يأتي:

 1. ذهب الكوفيون إلى أن «زيدا» في قولهم: زيدا أكرمته، 

منصوب بالفعل الواقع على الهاء، وذلك لأن المكنى الذي هو 

الهاء العائد هو الأول في المعنى فينبغي أن يكون منصوبا به.

 2. ذهب الكوفيون إلى أن لام كي (لام التعليل) هي الناصبة 

للفعل من غير تقدير «أن» نحو: جئتك لتكرمني؛ لأنها  قامت 

مقام كي، ولهذا تشتمل على معنى كي، وكما أن كي تنصب 

الفعل فكذلك ما قام مقامه.

 وكذلك الحال بالنسبة للام الجحود وحتى، وغيرها من 

المسائل التي جنحوا فيها بعيدا عن التأويل والتقدير.

4. توسيع القواعد.


تشدد البصريون لكي تطرد القواعد، وتوسع الكوفيون في 

الإجازة وكان لبعض ذلك ثمار سيئة، ولكن بعضا مما أجازوا 

كان مؤيدا بالسماع، ووافقه بعض النحاة المحققين، ومن ذلك:

 المسائل السبع التي رجحها ابن الأنباري في كتاب الإنصاف.

 أربع مسائل أتى بها الشيخ على الطنطاوي، منها:


 1. عمل اسم المصدر عمل فعله، وشواهده كثيرة، منها قول 

النبي صلى الله عليه وسلم: «من قبلة الرجل امرأته الوضوء».


 وقول الشاعر:

أكفرا بعد ردِّ الموت عني   وبعد عطائك المائة الرتاعا

وقد قال به ابن مالك أيضا.

 2. جواز العطف على الضمير المخفوض بدون عود الخافض، 

قرأ حمزة وغيره قوله تعالى: 

( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
 بجر الأرحام، ولقد جنح ابن مالك إلى رأي الكوفيين، فقال:
 وعود خافض لدى عطف على   ضمير خفض لازما قد 

جعـــــــلا وليس عندي لازما إذ قد أتى  في النظم والنثر 

الصحيح مثبتا
5. زيادة بعض التراكيب:


أجاز البصريون تراكيب، ومنعها الكوفيون، وأجاز الكوفيون 

تراكيب، ومنعها البصريون، وإذا كان لهذه التراكيب سند 

من اللغة فإننا نقبلها لأن فيها إثراء للغة ومنها:

 1. أجاز البصريون تقديم الخبر المفرد أو الجملة على المبتدأ، 

نحو: قائم زيد، وأبوه قائم زيد، واستدلوا على ذلك بالسماع.


 2. أجاز الكوفيون أن يتقدم التمييز إذا كان العامل فيه فعلا 

متصرفا، واستدلوا بقول الشاعر:

 أتهجر سلمى بالفراق حبيبها   وما كان نفسا بالفراق تطيب

 فنصب «نفسا» على التمييز، وقدمه على العامل فيه وهو 

«تطيب» لأن التقدير فيه: وما كان الشأن تطيب سلمى نفسا.
6. زيادة بعض الأدوات:


 زاد الكوفيون بعض الأدوات نتيجة تتبعهم للهجات القبائل 

التي أهملها البصريون، وفي هذا أيضا إثراء للغة، ومن هذه 

الأدوات:

 «مهمن» في أدوات الجزم.

 «كما» في أدوات النصب.

 «أنْ» في أدوات الشرط.

 7. تدريب الطلاب.

الثمار السيئة لهذا الخلاف:

 1. تغيير الروايات وكثرتها.
 2. كثرة الآراء.
 3. كثرة التقدير والتخريج.
 4. التوسع في الإجازة.
 5. تضخم كتب النحو.
 6. صعوبة النحو.
 7. التحامل والتعصب. 
8. غبن العلماء.
(*) مصدر المقالة: 

1. كتاب الخلاف النحوي بين البصريين والكوفيين وكتاب 

الإنصاف للدكتور محمد خيري الحلواني.

2. ثمرة الخلاف النحوي بين النحويين البصريين والكوفيين 

للدكتور محمد حسنين صبرة.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 أبحاث آخر قد يحتاج إليه:

١. نماذج لهجية في القراءات المتواترة | دراسة تحليلية.


https://drhishamahmed.blogspot.com/2020/03/blog-post.html

٢. الأوهام النحوية عند الخواص في كتاب "درة الغوّاص" دراسة تحليلية.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعانة الكفار على المسلمين

الملخص: من نواقض الإسلام التي يحكم بردة صاحبها مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَ...